نظرة موجزة في العقوبات بين المقاصد والغايات

( نظرة موجزة في العقوبات بين المقاصد والغايات)

يستفاد من أدلّة العقوبات أنّها شُرِّعَتْ صوناً للمجتمع وحفظاً للحقوق ودفعاً للمفاسد الكبرى المترتبة على تلك الأفعال الموجبة، وقد قسّم الفقهاء تلك العقوبات إلى حدود وتعزيرات، والأولى هي العقوبة التي يوجد لها تقدير في الشرع، والثانية هي العقوبة غير المقدّرة فيه والتي يترك أمرها لنظر الحاكم وتقديره ، وهناك من يشترط أن لا يتجاوز في تقديره العقوبات المنصوص عليها في الحدود،وأن تكون دونها في المقدار.
وعقوبة الرجم للزاني المحصن(المتواجد مع زوجته) وللزانية المحصنة (المتواجد عندها زوجها) لم ترد في القرآن الكريم وإن كان يظهر من قول السيد المسيح عليه السلام في الإنجيل (من كان منكم بلا خطيّة فليرمها أوّلاً بحجر) وجود عقوبة الرجم في الشرائع السابقة.
، وقد وردت في أخبارٍ تحكي تطبيقها في عهد رسول الله -صلّى الله عليه وآله- وبعده في عهد الخلفاء الراشدين، وقد ادعى الإجماع عليها غير واحد من الفقهاء، وأنكرها بعضهم.
والعقوبة التي لم ترد في القرآن الكريم كحدّ الرجم وحدّ المرتدّ يقع الكلام في أنها هل هي تشريع ثابت لهذه العقوبة، أم أنها من باب التدبير المؤقت الذي اختاره الحاكم لظروف وأسباب خاصّة ينتهي بانتهائها؟ وتندرج حينئذٍ تحت باب التعزيرات التي يترك فيها الأمر للحاكم كما تقدّم.
وعلى كلا التقديرين فقد بحث بعض الفقهاء في كتاب الحدود ونظام العقوبات في أمرين: الأول : في انحصار العقوبة بالمنصوص عليها وعدمه،
والثاني: في وسيلة التنفيذ.
وقد ذهب هذا البعض إلى عدم الإنحصار بها إنطلاقاً من أن الأدلّة لم تكن في مقام التعيين عند ذكرها، وإنما كانت في مقام اعتمادها بما هي فرد من أفراد العقوبة الرادعة،ولذلك لم تنحصر الأفعال الموجبة للعقوبة بتلك الأسباب المنصوصة،بل كانت في مقام ذكر الموجبات البارزة،ولذلك ثبتت موجبات أخرى اندرجت في باب التعزيرات،فكذلك يقال في العقوبات نفسها،وعليه فإن كانت هناك عقوبة أخرى يتحقق بها الردع فلا موجب للإنحصار بها، والحاصل أن مقاصد العقوبة في الشريعة هي الردع والتّأديب كما يستفاد من مجموع أدلّتها، وليس هناك من غاية أخرى وراء تشريعها، فهي ليست نظير العبادات التوقيفية التي يقتصر فيها على صيغتها الواردة عن صاحب الشرع، وهي-أي الحدود- لا تفترق عن التعزيرات في المقصد والغاية،فكما أن التعزيرات تُرِكَتْ لتقدير الحاكم، فلماذا لا يكون ذلك في الحدود أيضاً، ومجرد تسمية هذه بالحدود وتلك بالتعزيرات لا يحدث فرقاً جوهريّاً بينهما في المقاصد والغايات.
وقد ورد في الحديث عن رسول الله -صلّى عليه وآله-(إنَّ الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته).
وهذا الحديث الذي نخرج به عمّا دلّ على انحصار وسيلة التنفيذ بالسيف إلى غيره من الوسائل الأحسن منه، كذلك يمكن أن نخرج به عما يمكن أن يكون مشعراً بانحصار العقوبة وتعيينها بكيفية ومقدار خاصّين من خلال قوله صلّى الله عليه وآله(إن الله كتب الإحسان في كلّ شيء)وبهذا الحديث أيضاً يتم تفسير ماورد عنه صلى الله عليه وآله من قوله لأبي جهل في مكة(جئتكم بالذبح) عندما ألقى عليه بعض الجهلة قطعة من حيوان، فهو لبيان طريقة الذبح للحيوان الذي يراد أكله، لأنهم كانوا يأكلون الميتة والمنخنقة والمتردية والموقوذة، وليس لهم معرفة بطريقة الذبح، ولم يكن النبي في مقام التهديد بالذبح لهم كما فهمه البعض، فإن مكة كانت دار الدعوة، ولم يكن النبي فيها في موقع التهديد بالحرب. وتمام الكلام في ذلك موكول إلى مباحث علم الفقه، والله سبحانه وتعالى هو الأعلم.
_________
(العلامة السيد علي الأمين)