قراءة في مواقف المواقع الروحية الشيعية

الديار 1995
الصفحة 9 (14-6-1995)

حزب الله: الدين والدنيا
الامين: المستقبل
شمس الدين... استراتيجية جديدة
فضل الله... الموقع
قبلان: التباين الصعب
الإمام الصدر: استحالة البديل

قراءة فـي مواقـف المواقـع الـروحـيـة الشيعية
قرار موزع واجتهادات دينية ذات دلالات سياسية

لبنان الوطن لا يشكل استثناء في تكوينه الديني فحسب، بل في نظامه السياسي وقوى التأثير التي تتحكم في هذا النظام. صحيح ان لبنان مثل كل الاوطان يقوم على الاقانيم الثلاثة لقيامة الاوطان: اي الارض او الجغرافيا، الشعب ثم السلطة التي تؤمن استمراريته، لكن هناك سلطة الظل او القوة الخفية التي تتمتع بدور اساسي في رسم التوجهات السياسية للفرقاء السياسيين. هذه السلطة ـ القوة تمثلها المواقع والمرجعيات الروحية في البلاد والتي تشكل شريكا اساسا في صوغ القرار الوطني.
لا شك ان وحدة القرار لدى المواقع الروحية للطوائف تؤثر بشكل اساسي في صورة الطائفة، في مناعتها ودرجة فاعليتها في الجسم الوطني العام، كما ان اي تشرذم يعكس واقعا مترديا وسوداويا لشكل هذه الصورة.
ثمة قاسم مشترك يجمع كل الطوائف اللبنانية ويتمثل بتشعبات القرار بعيدا عن الاحادية والقرار الموحد واذا كانت الطائفة السنية تشكو من هذا التباين في مواقعها الدينية حيث توازن الرعب «المستجد بين دار الفتوى وجمعية المشاريع الخيرية (الاحباش) اضافة الى دور الجماعة الاسلامية ونفوذها الامر الذي يصعب بموجبه انتخاب مفت اصيل للطائفة وبالتالي للجمهورية.
واذا كانت الطائفة الدرزية تعيش ايضا هذه الاشكالية في التنافس على مشيخة العقل ومشكلة الاوقاف والتجاذب الحاصل بشأن انتخاب شيخ عقل للطائفة وثمة طرح لانتخاب اكثر من شيخ عقل.. اذا كان هذا موجودا لدى الطائفتين السنية والدرزية الا ان هذه الاشكالية ـ اذا صحت تسميتها ـ فإنها تبرز جلية لدى الطائفة الشيعية لتعدد المواقع الروحية والتباين الواضح في منهجية هذه المراجع.. فلكل مسلكه الاجتهادي الخاص به والمجتهد الشيعي غير ملزم ـ كما يعتبر هو ـ بالاطار الذي يرعى سلكه الديني، فهو المجتهد اذا اخطأ له اجر واذا اصاب له اجران.
وقراءة بسيطة في ثنايا المواقف للمراجع الروحية الشيعية تظهر ما يمكن تسميته بالاستقلالية النسبية لكل مرجع فكرا ونهجا واجتهادا هو خليط من الديني والسياسي والرؤية الاسلامية والوطنية. وهذه المواقع بشكل اساسي آية الله الشيخ مهدي شمس الدين رئيس المجلس الاسلامي الشيعي الاعلى ونائبه المفتي الشيخ عبد الامير قبلان الجسم الديني لدى حزب الله والعلامة السيد علي الامين اضافة الى رموز اخرى تتداخل مع هذه المواقع.
فضل الله: استقلالية الموقع وواقعية مستجدة
رفض العلامة السيد محمد حسين فضل الله في بداية نشاطه الديني والسياسي مقولة الانتماء لأي اطار حزبي كما يقول دائما ويوضح انه يتحرك في مدار الحالة الاسلامية بشكل عام من يراقب طروحات وافكار العلامة فضل الله حاليا يدرك مدى التغيير الذي طرأ على خطابه في مسألة الكيانية والعيش المشترك والجمهورية الاسلامية، فسماحته كان يدعو لإقامة جمهورية اسلامية في لبنان وكان يردد دائما.. اذا كان الشيوعي يدعو لدولة شيوعية والقومي يسعى لدولة قومية الا يحق لنا نحن الاسلاميين ان نسعى لتحقيق طروحاتنا ولو بالإقناع?
عدا عن كون السيد هو من دعاة الاهمية في العمل الاسلامي حيث الجغرافيا لا تكون مغلقة.. طروحات العلامة فضل الله هي جزء من حركته، الكثير من الشعارات التي ابتعدت عن الطوباوية الى مستوى اكثر واقعية في عالم تحكمه الكثير من المحاذير والعوائق.
من فدك الى المسائل الفقهية.. التمايز
يحاول العلامة فضل الله تكوين موقع لنفسه من خلال طروحاته الوطنية او اجتهاداته الدينية يتمايز فيه عن الجمهورية الاسلامية في ايران والمحسوب عليها كما ينظر اليه الآخرون. فقد كان للسيد نظرته الخاصة للقضية التاريخية «ارض فدك» سببت امتعاضا ايرانيا وربما جفاء معه، علما ان فضل الله كان من مقلدي آية الله العظمى السيد الخوئي الراحل مع وجود الإمام الخميني (ق.س) حيث كان له مقلدوه. واليوم وتوكيدا لهذا التوجه اصدر العلامة فضل الله مجموعة فتاوى في كتابه المسائل الفقهية.. هذا الكتاب لاقى ردودا متباينة، من انتقاد لبعض الفتاوى بشأن الموسيقى ولعب الورق وحلق اللحية والحجاب وسوى ذلك من الفتاوى، الى ثناء على ما اعتبره البعض جرأة في التصدي لمسائل فقهية عالقة تشكل تماشيا دينيا مع تطور العصر والمسائل الدنيوية المطروحة.
المهم في هذا المقام ان «سيد بئر العبد» يمارس دوره وتوجهه الخاص كشريك في صنع القرار الشيعي والوطني استطرادا حيث للعلامة فضل الله علاقات على مستوى جميع الطوائف.
شمس الدين: من «العددية» الى
«المدنية» الى نفي الشيعية كمذهب
اتصف العلامة شمس الدين بتمايز طروحاته خصوصا على المستوى السياسي ولكن الخطاب السياسي هو لغة متقلبة يواكب ظروف كل مرحلة حتى ولو كان تعاطيه مع موقع ديني. فطرح الديموقراطية العددية الذي اطلقه سماحة الشيخ طويت صفحته اليوم بعد ان شكل «نقزة» او عامل نفور لدى الطوائف الاخرى بشأن التمايز العددي في بلد يمتاز بحساسية تركيبته رغم ان الشيخ ربط مسألة الديموقراطية بمبدأ الشورى.
المجلس الشيعي: التمثيل رهن بالتفعيل
الشيخ شمس الدين بحكم موقعه في رئاسة المجلس الشيعي هو رأس السلطة الدينية لدى الطائفة الشيعية لأن المجلس هو الاطار الديني وحتى الزمني للطائفة.. لكن وهنا اصاب المجلس بعد غياب الإمام السيد موسى الصدر وغداة تولي شمس الدين الرئاسة وعد بتفعيل دور المجلس على الصعيدين الوطني لكن العثرات الكثيرة التي ما زالت تعتري هذا التفعيل تؤثر بشكل كبير على مستوى تمثيل واستيعاب المجلس لكل السلك الديني الشيعي، حيث تتنامى الحوزات الدينية بشكل كبير وسط غياب رعاية المجلس ورئيسه لهذه الحوزات، وهذا الامر ينعكس سلبا على سماحة الشيخ ودوره في احتضان هذه القضية وهو المعني الاول بها.
النخبوية والتمدد خارج اسوار الطائفة
يوصف العلامة شمس الدين بالبحاثة وهو المفكر المؤلف لكن يؤخذ عليه سلوكه النخبوي، فقلما يتابع الشيخ تفاصيل الهموم اليومية للمواطنين ويوليها رعاية شخصية.. هذا المنحى في تعاطي سماحته اضعف مكانته وموقعه كوريث مفترض للإمام الصدر ووعي الشيخ لهذه المسألة دفعه لأن يتمدد باتجاه الطوائف الاخرى فهو عراب القمم الروحية لجمع الطوائف اللبنانية الا ان علاقته مميزة تربط اليوم الشيخ بالطائفة السنية تصل الى درجة الحلف مع الرئيس رفيق الحريري فنادرا ما يغيب الحريري عن مناسبة يرعاها الشيخ والعكس صحيح. لدرجة ربط البعض زيارة شمس الدين الى السعودية حيث ادى فريضة الحج والى الكويت مؤخرا بخطبته القاسية التي انتقد فيها بعض مظاهر الاحتفالات بعاشوراء ومسألة التطبير (ضرب الرؤوس) وغيرها من المظاهر الاحتفالية بالمناسبة الى حد اعتبر سماحته ان الشيعية ليست مذهبا كما السنية، الامر الذي ولّد انزعاجا لدى افرقاء كثيرين وجوبه بانتقادات من علماء «حزب الله» ومن العلامة فضل الله نفسه.
جرأة الطرح
ومهما يكن، فإن سماحة الشيخ يمارس اجتهادا خاصا في نهجه وتعاطيه متفردا في طروحاته التي تتميز بالجرأة خصوصا لجهة طرح الدولة المدنية واذا كان هذا الطرح ضعيف التطبيق في لبنان، الا انه متقدم على صعيد الطروحات السياسية المتداولة للخروج من مرض الطائفية، والشيخ نفسه يعرف ان العامل الديني يزداد تأثيرا في الساحة السياسية، وان لبنان كما يقول البعض قائم على اساس تعاقد طوائفي اكثر منه عقدا سياسيا بمفهوم علم السياسة. والدولة المدنية جزء من مصطلحات الدعوات للعلمنة التي تهدف الى ابعاد النفوذ الديني والاعتبارات الطائفية من المسار السياسي الوطني العام.. وهكذا يرسم شمس الدين من تلة الخياط اطارا عاما لتحركه ورؤيته الدينية والسياسية وايضا كمشارك فاعل في صنع القرار الشيعي واستطرادا اللبناني.
قبلان: طيبة.. عفوية وتباين صعب
يسعى نائب رئيس المجلس الشيعي المفتي الشيخ عبد الامير قبلان كما كل المواقع الروحية داخل الطائفة الشيعية الى شيء من الاستقلالية في نهجه ومواقفه من الامور المطروحة، لكن صعوبات كثيرة تعترض الشيخ قبلان في هذا الاطار وهامش التباين ضيق فهو غير قادر على التمايز عن الشيخ شمس الدين رئيسه او عن حركة امل وهو رئيس هيئتها الشرعية وهو محكوم بهذه الاعتبارات غير انه ورغم هذه الاعتبارات فإن قبلان يمتاز بحضور يومي ومتابعة للشؤون العامة يعلّق على كل الاحداث ويبدي رأيا فيها.
الشيخ عبد الامير قبلان «ضمير الطائفة» كما يسمونه بمنزله الرحب، كما صدره بطيبته بتقبله لكل هموم وشكاوى المواطنين، على شتى المستويات. عفوي في طروحاته، فعلى سبيل المثال عندما سئل عن الطائفة ومخاطرها ودورها في اعاقة تطور لبنان دعا الشيخ في رده الى إلغاء المسجد والكنيسة مطالبا بالعلمنة الشاملة.
الخصومة.. ومأزق المشروع
الشيخ قبلان غير قادر كما حال السيد فضل الله والشيخ سمس الدين على تبني مشروع او حالة يتفرد بها.. بحيث يصح القول ان الشيخ موجود في كل الطائفة ومواقعها وقد تكون هذه الصفة من المظاهر الايجابية التي تفيد سماحة المفتي ويأخذ الكثيرون على الشيخ قبلان سوء علاقاته مع العلامة السيد علي الامين الذي يمتلك رصيدا هاما داخل الطائفة وشخصية معروفة على مستوى كل الوطن.
ويرى المطلعون على تطور العلاقة بين قبلان والامين، ان توتر العلاقة بينهما كان هناك ما يبرره سابقا بشأن انتخابات المجلس الشيعي وحصول انتقادات متبادلة من الطرفين بسبب تباين المواقف. ورغم التعرجات في سياق العلاقة بين السيد والشيخ كان موقف العلامة الامين انه مهما حصل فإنه ما من احد بإمكانه ان يزرع كرها في صدري لهذا الرجل الذي لا استطيع ان اكرهه. الا ان سماحة المفتي عاد واطلق انتقادات عنيفة ضد السيد، كان آخرها خلال رعايته افتتاح احدى الحسينيات في الجنوب حيث دعا «الى اخراج معهد الإمام الصدر ـ الذي يرأسه العلامة الامين ـ من الظلمات الى النور» الامر الذي اوجد ردة فعل سلبية من جميع الحضور ومن السيدة رندة بري صاحبة الدعوة
(دعوة الاحتفال) حيث ردت على الشيخ قبلان معتبرة ان هذه القضية تعالج داخل هيئات المجلس الشيعي وليس على المنابر وفي هذا الاحتفال بالذات، ويرى المراقبون ان الشيخ قبلان ربما راهن على خلل ما في العلاقة بين السيد علي الامين ودولة الرئيس نبيه بري وتشاء الصدف، كما يقول العلامة الامين نفسه انه فيما كان الشيخ قبلان يهاجم الامين ويدعو الى انتزاع معهد الإمام الصدر كان العلامة الامين مجتمعا مع الرئيس بري في دارته في عين التينة على غداء عمل..!
وبرأي العارفين في خفايا سلوك المواقع الروحية وتطلعاتهم فإن الشيخ قبلان يريد ان يعزز وجوده ودوره جنوبا وان العلامة الامين هو معادلة في الجنوب، وان الشيخ يحاول التأثير في هذه المعادلة، ويشكل المعهد عنصر استهداف لكن العلامة الامين عرض على الشيخ مرارا ان يتولى الاشراف وحتى استلام المعهد وقد قال للمفتي قبلان في هذا الخصوص «ان المعهد اينما اكون يا سماحة الشيخ».
العلامة الامين: قاعدة الانطلاق جنوبية
ينطلق العلامة الامين من قاعدة متينة جنوبا حيث يتمتع بشعبية واسعة وقاعدته هذه حركية (من حركة امل) بدرجة اولى حيث يرتبط العلامة الامين بعلاقة وطيدة مع الحركة رئيسا وتنظيما. هذه العلاقة تمتنت خلال التطوعات التي مرت فيها الحركة وكان فيها السيد من موقعه الروحي جزءا رئيسيا من عملية الدفاع عن مشروع الحركة في زمن كان الموقف مسؤولية وحتى مكلفا. لكن ثمة هنّات اعترت هذه العلاقة خلال انتخابات المجلس الشيعي عندما رفض الامين انتخاب بديل للإمام الصدر، عادت هذه العلاقة قوية اليوم لأن السيد بالنسبة للرئيس بري خط احمر كما يقول المطلعون على مستوى العلاقة بينهما.
المحقق وحقيقة الدور ولبنان ارض الميعاد
يمتاز العلامة الشاب بجرأته وشخصيته القوية وعندما كانت العلاقات طيبة مع الشيخ شمس الدين كان الاخير يطلق عليه صفة المحقق وهي درجة متقدمة في التحصيل الديني والاجتهاد الفقهي يتقن العلامة الامين حقيقة الدور فتفرد بشعارات وطروحات ساهمت في تعزيز موقعه.
العلامة الامين واقعي جدا في نظرته الى الوطن «فلبنان ارض الميعاد بالنسبة الينا وطنا نهائيا كما يقول الإمام الصدر» لذلك على الشيعة ان يتعايشوا مع الطوائف الاخرى في الوطن النموذج في تركيبته الحضارية. اذ يرى الامين ان التلاقي حتمي بين المسيحية والاسلام وهو قدر اليوم وغدا وفق القواسم والقيم المشتركة بين الاديان، وهو صاحب مقولة ان علاقات الاديان لا تتم على حساب الاوطان. للعلامة الامين وجهات نظر مهمة في مسألة النظرة الى اهل الكتاب والزواج المختلط بين المسيحية والاسلام، ومفاهيم عدة بشأن الصوم والولائم الرمضانية وابعاد ثورة الإمام الحسين (ان الامام الحسين ليس مشروع شهادة.. علينا التطلع الى كربلاء الاهداف لا النتائج).
ترتيب بيت الطائفة
على المستوى الديني العلامة الامين صاحب اصلاحية ثورية من اعلى المواقع اي المرجعية والدعوة الى المرجعية المؤسسة، الى ضبط السلك الديني في لبنان وتنظيمه ضمن الاطر التي ترعاه.
فيرى الامين ان الطائفة الشيعية من اغنى الطوائف في العالم ولكن اهلها هم الافقر في هذا العالم نتيجة الفوضى في توزيع الحقوق وغياب المؤسسة التي تستطيع ان تنظم وضع الطائفة في كل اصقاع المعمورة...
المهجر والوطن الآخر
للعلامة الامين علاقات واسعة مع الجسم الاغترابي خصوصا في اوستراليا وكندا والولايات المتحدة وتحاط زياراته لهذه الدول باهتمام ملحوظ وقد كانت زيارته الى اوستراليا مؤخرا ناجحة جدا وساهم مساهمة فعالة في تأمين التلاحم والوحدة بين ابناء الجالية هناك.
ويتوقع الكثيرون ممن يعرفون ابعاد شخصية السيد مستقبلا لسماحته في سياق لعبة القرار على الساحة الداخلية.
حزب الله.. الدين والدنيا
لا شك ان طبيعة تركيبة حزب الله وفق قيادة دينية بشكل اساسي تعطي صورة واضحة لتأثير العامل الديني في صناعة القرار داخل الحزب وصولا الى رحاب الوطن.
يمارس الحزب دوره ضمن التوجهات الدينية.. التكليف الشرعي وولاية الفقيه التي تمثلها الجمهورية الاسلامية في ايران ويجسدها السيد علي خامنئي وبحكم العلاقة العضوية والعقائدية بين الحزب وايران يجسد الحزب نفسه اكثر التصاقا بالمسألة الدينية.. وقد هاجم علماء الحزب الشيخ شمس الدين خلال توجيهه انتقادات للمغالاة في احياء عاشوراء.
منذ انطلاقته يتفرد الحزب بطروحاته وشعاراته وهو ككل المواقع يسعى لأن يكون البديل او حتى اللاعب الاكبر بالقرار الكبير في الوطن الصغير.

عباس عيسى